احمد ملحم | نيسان 2013
مع خطوته الأولى على أرض فلسطين.. قال بضع كلمات لا أكثر: «عدنا لنقاوم لا لنساوم»، ومضى إلى قدره الذي اختاره.
في الثامن عشر من آذار 2001، كانوا ينتظرون سماع صوته في الهاتف ليتأكدوا من وجوده في مكتبه؛ أرادوا أن يباغتوه بالموت. مروحيتان حربيتان من نوع «أباتشي»، تنشب أظافرها في السماء، وتستعد للانقضاض من جهتين مختلفتين، كي لا تدعا فرصة للموت ان يهرب. لحظات وتهتز أرض رام الله جراء القصف… لحظات وتبكي فلسطين أبو علي مصطفى، الأمين العام السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
شكل اغتيال أبو علي مصطفى بداية جديدة من المواجهة بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال، كما شكل تهديدا لجميع القادة الفلسطينيين وإشارة إلى إنهم ليسوا بمنأى عن الاغتيال.
وبدا جليا في صيف 2001 أن إسرائيل اعتمدت الاغتيالات السياسية، كخيار ضد قادة فصائل المقاومة وكوادرها، ضمن أهدافها وخططها لمواجهة الانتفاضة، والتي وصلت ذروتها باغتيال أبو علي مصطفى، بعد أقل من شهر من اغتيال القياديين في حركة حماس جمال سليم وجمال منصور في مدينة نابلس. وكان اغتيال أبو علي مصطفى بصفة كونه أمين عام يتم اغتياله منذ قيام السلطة، ما شجع إسرائيل على المضي قدما بهذه السياسة في ظل ضعف الردع الفلسطيني والعربي والدولي لها، على الرغم من انتهاكها القانون الدولي، وهو الأمر الذي مهد في ما بعد لاغتيال الشيخ أحمد ياسين، وحصار الرئيس الراحل ياسر عرفات في مقر الرئاسة في رام الله حتى اغتياله في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004.
وكانت الاغتيالات السياسية – ولا تزال – إحدى ركائز عمل أجهزة الأمن الإسرائيلية ضد فصائل المقاومة، حيث يحفل تاريخها بسجل كبير من الاغتيالات التي طالت قادة سياسيين لأحزاب فلسطينية، ومثقفين وكتاب وصحافيين، في معظم دول العالم، إبان تواجد القيادة الفلسطينية في الشتات.
يعتبر اغتيال أبو علي مصطفى اغتيالا سياسيا بامتياز، نظراً للمناصب السياسية التي تبوأها والدور النضالي المنوط به من خلال الجبهة الشعبية ومنظمة التحرير باعتباره عضوا لعدة سنوات في لجنتها التنفيذية. ولو نظرنا إلى سيرة أبو علي مصطفى النضالية لوجدنا انه كان من أوائل المنتسبين إلى حركة القوميين العرب في عام 1955، وأحد المؤسسين للجبهة الشعبية إلى جانب الدكتور جورج حبش، وتولى مسؤولية الداخل في قيادة الجبهة، كما شغل منصب نائب الأمين العام للجبهة في المؤتمر الثالث عام 1972، إضافة الى عضويته في المجلس الوطني منذ عام 1968، والمجلس المركزي الفلسطيني، واللجنة التنفيذية ما بين عام 1987 1991. وكان لدى سلطات الاحتلال أكثر من سبب لاغتيال «أبو علي» بعد أن قامت بدراسة ملفه بعد عودته إلى أرض الوطن عام 1999. ولا يخفي على أحد – بحسب نائب الأمين العام للجبهة الشعبية عبد الرحيم ملوح «الدور الذي لعبه الشهيد خلال انتفاضة الأقصى، ومواقفه الوطنية، وعلاقته الطيبة بالفصائل والقوى الوطنية، وخطه الوحدوي الذي انتهجه مع مكونات المجتمع الفلسطيني، إضافة الى صلابته النضالية، والمواقع المؤثرة التي تبوأها في الجبهة الشعبية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتاريخه الوطني المشرف منذ العام 1952 حتى استشهاده في 2001».
وقال ملوح في حديث إلى «ملحق فلسطين»: لم يدخر «أبو علي» جهدا طيلة حياته، من أجل الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، بجميع السبل والطرق، بدءاً من الكفاح والمقاومة المسلحة، أو من خلال عودته إلى الوطن، أو عبر العمل الجماهيري والسياسي الذي قام به، لتكريس أهداف شعبه، غير عابئ بحياته الشخصية، والمخاطر التي كان يتعرض لها. وبذلك هدفت إسرائيل من اغتياله إلى توجيه ضربة للحركة الوطنية وتشتيت الصف الفلسطيني، وإضعاف الجبهة الشعبية.
وكانت حكومة نتنياهو الأولى رفضت في عام 1996 عودة أبو علي مصطفى إلى أرض الوطن، لكنه تمكن من الدخول في صيف 1999، مع انتهاء المدة الزمنية للمرحلة الانتقالية لاتفاقية أوسلو، بعد محادثات مع الرئيس الراحل ياسر عرفات في القاهرة.
حققت إسرائيل مكاسب عدة باغتيال «أبو علي»، كما كانت الحال في اغتيال القادة الفلسطينيين، حيث غيبت قائدا وطنيا وحدويا عن الساحة، وسعت من خلال قوة الموت، إلى تمزيق الفصائل والأحزاب الفلسطينية باغتيال قادتها، والإضرار بأي عمل وطني.
ويرى ملوح أن «اغتيال أبو علي كانت له أبعاد سياسية واستراتيجية أثرت ليس في الجبهة الشعبية وحدها، إنما في العمل الوطني برمته، جراء ما يتمتع به من إجماع في داخل الجبهة، واتفاق لدى فصائل العمل الوطني الذي تمثل بقيادته مشروع وحدة اليسار الفلسطيني، إيمانا منه بأن وحدة اليسار ضرورة مهمة كي يبقى في طليعة الدور الوطني الفلسطيني، ولتشكيل ثقل في الساحة الفلسطينية».
كما يحسب للشهيد دوره البارز في انجاز الوحدة الوطنية، مع سعيه لتأليف جبهة وطنية معارضة للخط السياسي الذي انتهجته حركة فتح باعتماد المفاوضات بناء على اتفاق أوسلو، خاصة مع اتضاح تعثر الحل السياسي في عام 1999 لدى انتهاء المرحلة الموقتة من الاتفاق، واندلاع الانتفاضة الثانية بعد فشل مفاوضات «كامب ديفيد» عام 2000 في الولايات المتحدة.
ويلخص الكاتب فيصل حوراني البعد السياسي الذي تركه الاغتيال بالقول «إن أبو علي انصرف مع رفاقه المقيمين في الوطن إلى ترتيب أوضاع الجبهة الشعبية وتوسيع علاقاتها بمحيطها وتنمية دورها في العمل العام وتجويد وسائلها، وقد ساعد هذا كله في تعبئة القوى المعارضة لاتفاق أوسلو في اتجاه أكثر واقعية وأكثر نجاعة. وكان في إمكان أي شخص أن يشهد أن أبو علي حقق في هذه المجالات جميعها إنجازات يعتد بها، من دون أن يفرط بالمبادئ أو تهن معارضته لما اعترض عليه».
يضيف حوراني: لقد مزج الرجل متطلبات الواقعية السياسية بالثبات على المبادئ. وكان من نتائج هذا الأمر أن تكرس موقع الجبهة بوصفها القوة الثانية بين القوى الممثلة في م. ت. ف، أو الثالثة في الساحة كلها إذا أدخلنا «حماس» في حساب القوى. ولم يقتصر الأمر على تثبيت هذه المكانة، بل اشتمل أيضاً على تضييق مطرد في الفجوة بين مكانة الجبهة ومكانة من يسبقها في الترتيب. وتساءل حوراني: فهل نحتاج إلى كثير من الاستقصاء كي نستخلص السبب الذي حمل شارون على تصفية هذا القائد؟. (أنظر مجلة «رؤية»، العدد 30، تشرين الأول 2007).
قامت الجبهة الشعبية بعد اغتيال أمينها العام، بالرد على الضربة التي تلقتها، عسكريا وسياسيا، من خلال تنفيذ عملية اغتيال وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي بعد 40 يوما على اغتيال أبو علي مصطفى، في ظل تأكيد قيادة الجبهة على المضي بمسيرتها وبحسب الأهداف والمحددات المتفق عليها، وانتخاب الهيئات القيادية السياسية للجبهة، لملء الفراغ. وشكل اغتيال زئيفي ضربة لأجهزة الاحتلال الأمنية، حيث يعتبر هذا الاغتيال الأول من نوعه الذي يتم فيه استهداف مسؤول سياسي إسرائيلي، وجنرال سابق، ما فتح المواجهة على مصراعيها مع الاحتلال، خاصة في ظل جملة التهديدات التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي في تلك الفترة أريئيل شارون، والذي حمل بموجبها الرئيس عرفات والسلطة مسؤولية الاغتيال.
لم تقف تداعيات اغتيال «أبو علي» عند هذا الحد، بل وصلت الى قيام الأجهزة الأمنية الفلسطينية، باعتقال الأمين العام الجديد للجبهة الشعبية أحمد سعدات، وأعضاء الخلية التي نفذت اغتيال زئيفي، واحتجازهم في المقاطعة وتقديمهم لمحاكمة فلسطينية لقاء فك الحصار الإسرائيلي عن الرئيس عرفات، قبل أن يتم ترحيلهم إلى سجن أريحا تحت حماية بريطانية وأميركية، ما شجع إسرائيل لاحقاً على اقتحام السجن واعتقالهم بعد أيام من إبرام الاتفاق، الأمر الذي انعكس سلبا على العلاقة الداخلية بين الجبهة الشعبية والسلطة الفلسطينية.
تعتبر عمليات الاغتيالات والتصفيات التي تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين انتهاكاً لمعايير القانون الدولي الإنساني العرفي والتعاقدي، وإعداماً خارج نطاق القانون، وانتهاكاً لمعايير حقوق الإنسان، وهو ما ينطبق على جريمة اغتيال أبو علي مصطفى. وتنتهك إسرائيل باغتيالاتها الفلسطينيين المادة الثالثة من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية السكان المدنيين في وقت الحرب، وكذلك المادة (33) التي تحظر قتل أو جرح أفراد يتبعون دولة معادية أو جيشٍ معادٍ بشكل غادر. وقد أقر المجتمع الدولي منذ عام 1967 أن قوات الجيش الإسرائيلي هي قوات احتلال عسكري، وأن الأراضي الفلسطينية هي أراضٍ محتلة وتنطبق عليها اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 المتعلقة بحماية السكان المدنيين في وقت الحرب، ما يحتم عليها تطبيق أحكام هذه الاتفاقية. والمجتمع الدولي ملزم إجبارها على التطبيق في حالة رفضها، وهو الأمر الذي لا تطبقه إسرائيل، من خلال عمليات القتل التي نفذتها باستمرار. وبحسب أحكام وقواعد القوانين الدولية لحقوق الإنسان فإن الاغتيال «جريمة حرب» تستدعي استدعاء الذي قام بها وتقديمه إلى محكمة جرائم الحرب الدولية، وهي تنطبق على اغتيال معظم القادة الفلسطينيين.
تندرج عمليات الاغتيال والتصفية التي نفذتها وتنفذها قوات الاحتلال الإسرائيلي، نظراً إلى عدم مشروعيتها ومخالفتها أحكام القانون الدولي العام والإنساني، ضمن نطاق حالات الإعدام خارج نطاق القانون والإعدام من دون محاكمة، وأيضاً حالات الاقتصاص والقتل العمد والإرهاب. وبالرجوع إلى قواعد وأحكام القانون الدولي العام والإنساني، يمكن القول ان أحكام هذه القوانين وقواعدها حظرت بشكل مطلق وقاطع على السلطة، أكانت مدنية قائمة في أقاليم ودول مستقلة، أو عسكرية قائمة في الأراضي المحتلة، القيام بعمليات التصفية الجسدية والقتل العمد وإعدام الأفراد بطريقة تعسفية وخارج نطاق القضاء والقانون، بغض النظر عن أسباب هذه الممارسة، أكان القصد منها إيقاع العقوبة على أفعال محددة، أو الاقتصاص أو الثأر أو ردع السكان وإرهابهم.
* صحافي فلسطيني يقيم في رام الله.