د. فايز رشيد

أربعة عشر عاماً مضت على غياب جسده القسري, لكن فكره ومبادؤه وكلماته  استوطنت قلوبنا , ومضت طيفاً وأفقاً سابحين في سماء فلسطين الطاهرة،تسقسق مع العصافير لحن المقاومة الخالد،ترتل النشيد الفلسطيني السائر في نسغ الحروف.. تملأه أملاً بربيع قادم لا محالة،تروي ظمأ سنديانة ظلّت صامدة عبر مراحل التاريخ وكأنها أدركت شكل الحنين الأزلي إلى الوطن! ..تجسدت في جذعٍ, خط عليه أبناء شعبنا حقيقة الارتباط بين الكنعاني تاريخاً والفلسطيني العربي حاضراً ومستقبلاً وبين الانتماء للأرض،هذا النابض عشقاً لثراها!ندرك أن حبات ثرى فلسطيننا التحمت مع أجساد شهداء شعبنا عبر التاريخ ومع احورار مآقيهم ,لتكون مصدراً للصلابة الساكنة في أفئدة مناضلينا.

أبو علي..اعتقدوا أنهم دمرّوك بصواريخهم.لا يدركون حقيقة عطاء الفلسطيني حيّاً أو شهيداً ,فهو يظل حياً يسكن وراء جدران القلب…. يظل منبعاً أصيلاً للعطاء الأزلي،يغيب شكلاً ويظل مضموناً مثل قوس قزح ,ما أن يغيب , حتى يظهر مرةً أخرى،وهكذا دواليك.قلتها بعد أن عبرت نهر الأحزان والشوك  والشوق… نطق بها قلبك قبل فكرك ولسانك :”جئنا لنقاوم ,لا لنساوم” .شهدت الأراضي المحتلة مقدار عطائك, وأحس أبناء شعبنا بأهمية وجودك بينهم،ورفاقنا بالتصاقك بهم وبجهودك من أجل ثراء قضيتنا.

اجتمعت فيك صلابة الماس ورقة النسيم في معادلة رائعة. صلابة, حين يستلزم الموقف ذلك…ورقّة, في مواضعها . لا تتطلع إلا إلى السماء ,عمادك العزة والوفاء والكرامة  ومصالح شعبنا وأولا وأخيرا: المقاومة والكفاح المسلح.في حياتك كنت بسيطاً مثل الماء ….في عطائك مثل بيدر، تعطي بلا حدود لا تكّل ولا تملّ…حانياً مثل أمٍّ رؤوم , يتسع قلبك كل الناس. تحزن لدمعة طفل, وتدمع عيناك لكل موقف عاطفي وإنساني.يتعلم الآخرون من خصالك كيف يكون الإنسان إنساناً ,والمناضل: مناضلاً ,والقائد :قائداً والمقاوم مقاوما.باختصار كنت يعقوبياً طاهرا. لم تتلوث سمعتك يوماً… مسألة يشهد بها منتقدوك سياسياً قبل رفاقك وأصدقائك وأهلك.

في زمن الردة , يبحث الشعب عن نفرٍ من القادة , لم يساوموا يوماً في حق.  لم ينطقوا مرّة بغير الصدق. ولاؤهم الوحيد لفلسطين وتحريرها . وقبلتهم مصالح شعبهم. فلسطين في أذهانهم لا تحتمل التجزئة ..فلسطيننا العربية الخالدة. كنت أيها الصديق فارس أولئك القادة.امتشقت فلسطين في فؤادك النابض بتاريخها الكنعاني العربي،وبحاضرها المؤلم حتى النخاع, انتظاراً لفرسان قادمين,  يمحون دنس ورجس أولئك المغتصبين لثراها الطاهر،وبمستقبلها المشرق ,وأريج زهرها الجوري ,وصفاء مياه بحرها.

أسوارها الحصينة ما انكسرت يوماً أمام عواصف التاريخ،ظلّت عصيّة على الغزاة. مثّلت لغة التخاطب الوحيدة  بين أسوار المدينة والغزاة. كانت حبر التفاهم بين أشياء المدينة والإله .انطبعتَ ايها الصديق,, صفحة نقية على وجه التاريخ الأزلي المقاوِم ,وظلّت حقيقة أبدية هي … الفلسطينية الخالدة.تجسّدت املاً قادماً عنوانه : الانتصار, ليعود الثوب الفلسطيني المطرّز إلى جذوره الأصيلة في مناطقه ومدنه وقراه… وعَبَقِهِ برائحة الأرض ,التي تعيش في تلافيف دماغ الفلسطيني في منفاه. يحملها أهزوجة النصر القادم ,والعودة المظّفرة لأرضنا المشتاقة دوماً لأبنائها.

يحاولون تزوير التاريخ, واختراع أساطير وأضاليل جديدة لوجه وطننا,مثلما حاول غزاة آخرون مراراً قبلهم.لا يدرك أولئك القتلة: أن أرض فلسطين تضئ وجه القمر, تظلل السماء بعبق زيتها العتيق, وحبات زيتونها , وأريج أزهار برتقالها وليمونها،تنزرع خلوداً قبل التاريخ ,الذي أخذ صفحات وجهه من أزليتها وأبديتها الخالدة .. عنوان وجودها.

ها أنت أيها الوطن تنادي أبا علي! يوم ترّجل عن فرسه :بكت الشمس, أظلمت السماء, حزناً على الجسد المخىء في شظية .. وفي بطن حلم ,عنوانه : العودة إلى الأرض حيّاً أو شهيداً, حيث يتنادى الشهداء مرحبين بالقادم الجديد, عنواناً للتضحية, وتجسيداً للوفاء, وتعبيراً حياً عن التزام الفاسطيني بثرى ترابه الوطني, في علاقة يحتار الغازون في طبيعتها , بل في وجودها من الأصل . تتمثل حُلماً في عقل طفل , وتراثاً حاضراً يؤسس لمستقبل أكثر حضوراً في رأس شيخ… حمل مفتاح بيته, عبر فيه كل المنافى, ظل ملتصقاً بكوشان الأرض ليكون معلماً أساسياً من معالم الفلسطيني حيثما يتواجد.

  شهر آب غني بشهادة العديد من الفلسطينين وموت كفاءاتهم. الشهادة واجب.. والموت حق… وما بين الاثنين… يسير الفلسطيني المقاوم بالسلاح, والكلمة. وبالرواية, والمقالة.. والقصيدة, وبالقلم والمسرحية. والإخلاص والعطاء لفلسطين من كل المواقع,وبالانتماء إلى الوطن الفلسطيني الكنعاني العربي الأصيل والحضن الشعبي العربي .. ورغم جراحه ومآسيه تظل فلسطين دوما جرحه النازف حتى تحريرها كاملة غير منقوصة فلا بقاء لهذا المشروع الفاشي… هذه الحقيقة نؤمن بها كفلسطينيين وكأمة عربية .. ما قبل الثلاثاء الحمراء .. عشق الفلسطيني الشهادة ..عندما كانت ضرورة للدفاع عن الوطن .. وامتدت الرحلة حتى اللحظة.. ولا نعرف متى ستنتهي.. فعدُوّنا غادر ! يوم الثلاثاء الحمراء أُعدم محمد جمجوم, فؤاد حجازي وعطا الزير, ثم توالى المشوار.. عز الدين القسام.. علي طه.. عبدالقادر الحسيني. وقبل عام 1967 استشهد رفيق عساف, محمد اليماني وغيرهم… وتوالى المشوار بالشهداء غسان كنفاني وجيفارا غزة وفيما بعد أبو جهاد  وكثيرون غيرهم .ونحن نتذكر قائدنا الوطني، نقف إجلالاً وإكباراً لروحه ولأرواح كل شهداء شعبنا، ومنهم أيضا: القادة الشهداء :حكيم الثورة جورج حبش وحداد وأبو عمار وعمر القاسم وفؤاد نصار وسمير غوشة والياسين والشقاقي ,الذين عبّدوا بدمهم درب الحرية وما زال طويلاً. ثلاثة عشر عاماً مضت على غياب جسدك القسري, لكن فكرك ومبادءك.

 لن نرثيكم شهداءنا..لن نرثيك أبا علي …فأنتم جميعا أكبر من الرثاء في كينونته. لقد احتضنتم أرضنا مثلما احتضنَتكم ،جعلتم من الرثاء : وقفةً تزرع الأمل والصلابة  في أفئدتنا. ناموا  قريري العيون أيهاالتيجان المعلقة فوق رؤوسنا…. فأنتم في حضن فلسطيننا حتى ولو ُدفن البعض منكم خارجها! ستنقل رفاتكم بعد التحرير.. فالقبور أوطان هي الأخرى.  نعم علمتمونا كيف نمضي إلى الحقوق الوطنية .. سنمضي على دربكم النضالي.

       *    *